سجل مراقبون للشأن السياسي في الجزائر أن هناك حزبين في الجزائر، لا أكثر، تثير محطة المؤتمر لديهما ما يشبه حرب داحس وغبراء التي تكون مصحوبة باهتمام إعلامي بالغ، وإذا كان مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني مبرر أن ترافقه كل هذه الضجة لكونه الحزب الحاكم في البلد، فإن الذي لم يفهمه الكثيرون إلى الآن هو سر الضجة الكبيرة التي تسبق مؤتمر حركة مجتمع السلم القادم، فهل منصب رئيس حركة مجتمع السلم مهم لهذه الدرجة حتى يحتدم الصراع بهذا الشكل؟؟
تمهيد للنقاش
إن أكبر مشكلة مازالت تواجهها الحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة والعالم كله عامة هي معضلة العلاقة بين العمل الدعوي والنشاط الحزبي، وفي الجزائر على وجه الخصوص يريدون أن يكونوا مسلمين متميزين لهم ورع وزهد وطهارة ونظافة وسمت تربوي عال بعيدا عن مخالطة أهل الخوض و"التغماس" ويريدون أن يشاركوا في السلطة ويديرون دفتها بأيديهم ولكنهم في الوقت نفسه ينتقدون فسادها وانحرافها وتقصيرها في حق المجتمع واحتكارها للثروة والحكم.وقد لا حظنا أن مثل هذا النقاش يعود كل كرة على لسان ممثلي التيارات الإسلامية لينتقد الواقع ثم يعرج على نقد زعماء الأحزاب الإسلامية سواء الذين تطرفوا فرفضوا السلطة شكلا ومضمونا وسلوكا لها طريقا آخر هو الكل أو اللاشيء، أو الذين وقفوا متفرجين زاعمين أن الدين إذا دخل السياسة أفسدها وأن السياسة إذا دخلت في الدين أفسدته، أو أولئك الذين يسمون أنفسهم بتيار الوسطية والإعتدال الذين يأكلون مع الذئب ويبكون مع الراعي حسب تعبير أحدهم.
فما هي حقيقة هذه الإشكالية؟ وهل هناك نموذج جاهز يمكن القياس عليه لضبط حالة التنافي بين الدعوي والسياسي أم أن التيار الإسلامي محكوم عليه بالفشل الذريع في كل تجاربه ما لم يبلور طريقا رابعا خارج منظومته الفكرية التقليدية التي ما تزال محكومة بما يسميه المنظرون السياسيون بالمطالبة والمغالبة والمشاركة؟.يجزم بعض المتتبعين أن حركة مجتمع السلم هي الحركة الإسلامية التي ما زالت الآمال معقودة على نجاح تجربتها على المدى الطويل، وأن بقية التجارب الإسلامية قد تحطمت آمالها على صخرة الواقع سواء الذين سلكوا سبيل المغالبة أو الذين اكتفوا بالمطالبة أو حتى الذين شاركوا صوريا من أجل تحصين أنفسهم ضد خصومهم السياسيين من أبناء التيار الواحد، ومع ذلك يبقى السير نحو الديمقراطية له طريق واحد هو الصندوق الإنتخابي الذي من خلاله يملك أي حزب أن يصبح قوة سياسية أولى أو ثانية في البلاد إذا نجح في إقناع الرأي العام بجديته وخطابه السياسي وقدرته على حل مشكلات الشعب والتصدي لمختلف اللملفات المطروحة على الساحة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وتلبية طموحات الشباب مهما كانت هذه الطريق محفوفة بالمغامرات السياسية التي لا تخلو من تضحيات ولو معنوية ولا تبرأ من أخطاء في طريق السير الديمقراطي الذي هو بحاجة إلى ضمان مسألتين أساسيتين لتحقيق النجاح المطلوب هما : الإستقرار العام والحريات الفردية والجماعية.
درس الجبهة الإسلامية للإنقاذ
نتذكر أنه حينما حققت الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة فوزها الكاسح في انتخابات 1991 في الجولة الأولى للتشريعيات نصحت الكثير من الجهات الداخلية والخارجية النظام الجزائري بترك المسار الديمقراطي يمضي إلى نهايته وإعطاء الفرصة للناجحين ليجربوا حظهم مع الشعب، وكانت حجتهم أنهم سيفشلون وأن دخول أصحاب اللحى في الشأن السياسي سيضعفهم وسيرفضهم الشعب لأن المسافة بين الأقوال والأفعال واسعة جدا ومطالب الجماهير غير قابلة للتطبيق الميداني، خاصة إذا تعلق الأمر بنموذج إسلامي سوف يقود المواطنين إلى الحكم على الإسلاميين بالفشل بعد اختبارهم ميدانيا وسوف تكون مسألة إدارة الحكم هي قاصمة الظهر بالنسبة لهم ولتجربتهم، وهكذا تنتهي أحلامهم الوردية، فاختبارهم في الميدان السياسي يشكل أفضل وسيلة لإضعافهم وكشف مزاعمهم وفضح ادعاءاتهم المثالية وقدراتهم الخطابية..ولعل هذه هي الفكرة نفسها التي تطبق اليوم بشكل متدرج على ما بقي من فضائل التيارات الإسلامية، وبوجه خاص حركة مجتمع السلم التي تخوض هذه التجربة منذ أن مؤسسها الشيح محفوظ نحناح رحمه الله عام 1994 تبني مبدأ المشاركة كاستراتيجية جديدة لتجسيد مشروع هذه الحركة الذي تراهن على نجاحه عن طريق ترقية التحالفات.
بين "دال الدولة" و"دال الدعوة"
ولكن الإشكال المطروح هو كيفية المواءمة بين السياسي والدعوي، أي تحديد نسبة الأقساط التي يحظى بها العمل السياسي والنسبة التي يجب أن يتفرغ لها الدعاة والمربون ثم طرق بناء الجسر الرابط بين الدعوة والسياسة، أو بتعبير الحمسيين أنفسهم: البحث عن كيفيات الإنتقال من "دال الدعوة" إلى "دال الدولة"؟.لقد ارتكب المنظرون السياسيون لهذا التيار خمسة أخطاء تكتيكية جعلت سياساتهم متذبذبة ومواقفهم ضعيفة أمام منافسيهم من جهة، وأمام مناضليهم من جهة أخرى وأمام الرأي العام من جهة ثالثة، وهذه الأخطاء الخمسة في تقديرنا بدأت منذ سنة 1995 عندما قررت حركة حمس ترشيح الراحل محفوظ نحناح لخوض معترك الرئاسيات واستمرت عشر سنوات وانتهت بمعركة الإستوزار سنة 2005 التي فقدت فيها هذه الحركة احترامها أمام شركائها في التحالف الرئاسي...
هل يتحول الإخوان إلى شيعة ؟!
وطرح المراقبون والمتتبعون لشان الحركات الإسلامية بشأنها تساؤلات حائرة على شاكلة: ماذا تريد حمس هل التريد التقدم أم التراجع إلى الخلف؟ هل التحالف الرئاسي مدرج للصعود أم فخ للخسران ؟ وهل الحزب الذي يطمع في الوصل إلى سدة الحكم عام 2012 ـ حسب أمنية رئيسه الحالي ـ ويعيب بعض قيادييه على رئيسهم أن يكون وزير دولة سنة 2005 سوف يسمح لرئيسه أن يكون رئيس حكومة أو وزيرا أولا سنة 2012 وهل سوف يسمح له بالترشح لرئاسيات 2014 ؟ ولعل هذا الكلام له ما يبرره في ظل معلومات تقول أن بعض المعارضين لرئيس الحركة الحالي يسعون إلى تجريده من الكثير من الصلاحيات في حالة ظفره بعهدة ثانية منها منعه من أي منصب تنفيذي، ومنعه من الترشح للرئاسيات، وهذا معناه أن حركة حمس تريد أن تصل إلى الحكم بغير رئيسها أو تريد أن تنسج على منوال الشيعة بحيث يكون رئيس الحركة "مرجعا أعلى" وأعوانه هم الذين ينفذون سياساته ويتبوؤون المناصب العليا، في حين أن عددا محترما من مناضلي الحركة يدركون أن التجربة الناجحة إلى غاية اليوم في العالم هي تجربة حزب العدالة والتنمية التركي الذي افتك الزعامة من البروفيسور نجم الدين أربكان (الذي ترأس الحكومة) وخطا خطوات جبارة باتجاه شطب العلمانية بالديمقراطية، ثم جاء من بعده من سار في خط الإحتكام إلى الصندوق على كل المستويات إلى أن حملهم الصندوق إلى رئاسة الدولة.
الأخطاء الخمسة التي وقعت فيها حمس
إن الأخطاء الخمسة التي وقعت فيها حمس بين سنوات 1995 و2005 تتمثل في الآتي:
1ـ دخول الشيخ نحناح لمسابقة رئاسيات 1995 حيث كشف عن قوة الإسلاميين الحقيقية وأعاد إلى الأذهان نظرية المغالبة عن طريق الصندوق مما تسبب في إقصائه سياسيا سنة 1999، وقد تسبب إقصاؤه هذا في انكماش موجة التيار الإسلامي، وقد أصيب مناضلو الحركة بنوع من اليأس تسبب في تراجعهم إلى حوالي النصف في استحقاقات 2002، مقارنة بنتائج استحقاقات 1997، وهذه مسألة بحاجة إلى دراسة موضوعية غير مسطحة.
2 ـ تحويل احتياطهم الدعوي من المساجد إلى البرلمان أو إلى الحكومة، بحيث تم تجفيف خزان الدعوة وزهد الناس في القدوة، بحيث تحول كبار خطبائهم مثلا إلى مجرد نواب في البرلمان أو إلى وزراء في الحكومة، فخسرتهم الساحة الدعوية، ويجزم البعض داخل هذا التيار بأنه يصعب تعويضهم على مدى عشرين سنة قادمة.
3 ـ تدني سقف المسؤوليات لدى قواعد حمس حتى صار كل مناضل في أي بلدية يرى نفسه وزيرا أو نائبا في البرلمان، وقد سمعنا أن بعضهم عرضت عليه إدارة أو استشارة في وزارة أو رئاسة ديوان أو رئيس مشروع فزهد فيها في انتظار الوزارة أو البرلمان، وهذه الطموحات المبالغ فيها حولت قطاعا واسعا من أبناء حركة مجتمع السلم إلى "نقابيين" يناضلون من اجل مطالب نقابية لا علاقة بالبرنامج ولا بالمشروع ولا بالرسالة.
4 ـ تحول جماعة المؤسسين من قيادة التيار الإسلامي بالدعوة إلى العمل السياسي، حيث بدأت القدوة تتلاشى عندما فقد بعضهم صفات التضحية والتجرد إلى الإستفادة من الريوع والتنافس مع أبنائهم من صغار المناضلين حول مغانم دنيوية، وقد خسرت الحركة بهذا التحول أهم مراجعها التي كان المناضلون يفزعون إليها أوقات الشدة.
5 ـ ظهور المعارضة الداخلية إلى العلن بعد وفاة الشيخ نحناح، والكشف عنها عبر وسائل الإعلام المختلفة، حتى ليبدو للمتتبع أن هناك تيارين داخل حركة حمس، وأن سيناريو الإصلاح والنهضة سوف يتكرر في حمس أثناء أو بعد مؤتمرها الرابع.
سيناريو النهضة والإصلاح يخيم على حمس
لقد تغيرت الظروف الوطنية والإقليمية والدولية، مما يجعل ليس هناك أي ضامن من إمكانية تكرار سيناريو الإنقسام خلال المؤتمر تماما مثلما حصل مع النهضة والإصلاح، على الرغم من أن الحمسيون ما يزالون يتمسكون بنظرية قوة وصلابة وانضباط الحركة سوف يحول دون حدوث ما ذهبنا إليه من حديث حول سيناريو الإنقسام، من يضمن لمن؟، فهناك سيناريو آخر يقول أن بعض الأطراف قد تستغل صراع الأجنحة داخل الحركة فتغري البعض بالإستقواء على المنافس السياسي، وقد يتم جر بعض الوجوه القيادية إلى خارج دائرة الحركة حيث يتجاوز النقاش فضاءات الحديث عن السياسي والدعوي وعن الشباب والتنمية والإصلاح السياسي إلى حديث عن تجديد كل شيء ونسف كل المكاسب القديمة بحجة أن عجلة التاريخ لن تتوقف بذهاب زيد ومجيء عمرو، وهو حديث قد يكون صحيحا من الناحية النظرية، إذا تعلق الأمر بمناقشة مشاريع أوراق المؤتمر، ولكن الأمر بحاجة إلى أخذ احتياطات كبيرة، ما دام أن الأمر لم يعد مضمونا..
والحقيقة أنه في ظل الصراع الدولي الحالي لا يبقى سياسي ولا دعوي إلا إذا فقه منظرو الحركة الإسلامية أن السياسة والدعوة وجهان لعملة واحدة.للإجابة على كل الإشكاليات المطروحة هنا، تفتح الشروق أون لاين هذه النافذة لإثراء الموضوع بالنقاش الجاد بعيدا عن كل تحيز لطرف على حساب طرف آخر **منقول**